قوله : ( كن )
أي : حصلن , فهي تامة . وفي قوله " حلاوة الإيمان " استعارة تخييلية , شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو وأثبت له لازم ذلك الشيء وأضافه إليه , وفيه تلميح إلى قصة المريض والصحيح لأن المريض الصفراوي يجد طعم العسل مرا والصحيح يذوق حلاوته على ما هي عليه , وكلما نقصت الصحة شيئا ما نقص ذوقه بقدر ذلك , فكانت هذه الاستعارة من أوضح ما يقوي استدلال المصنف على الزيادة والنقص . قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة : إنما عبر بالحلاوة لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله تعالى ( مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ) فالكلمة هي كلمة الإخلاص , والشجرة أصل الإيمان , وأغصانها اتباع الأمر واجتناب النهي , وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير , وثمرها عمل الطاعات , وحلاوة الثمر جني الثمرة , وغاية كماله تناهي نضج الثمرة وبه تظهر حلاوتها .
قوله : ( أحب إليه )
منصوب لأنه خبر يكون , قال البيضاوي : المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه وإن كان على خلاف هوى النفس , كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه , ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله , فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل , والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك , تمرن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعا له , ويلتذ بذلك التذاذا عقليا , إذ الالتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك . وعبر الشارع عن هذه الحالة بالحلاوة لأنها أظهر اللذائذ المحسوسة . قال : وإنما جعل هذه الأمور الثلاثة عنوانا لكمال الإيمان لأن المرء إذا تأمل أن المنعم بالذات هو الله تعالى , وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه , وأن ما عداه وسائط , وأن الرسول هو الذي يبين له مراد ربه , اقتضى ذلك أن يتوجه بكليته نحوه : فلا يحب إلا ما يحب , ولا يحب من يحب إلا من أجله . وأن يتيقن أن جملة ما وعد وأوعد حق يقينا . ويخيل إليه الموعود كالواقع , فيحسب أن مجالس الذكر رياض الجنة , وأن العود إلى الكفر إلقاء في النار . انتهى ملخصا . وشاهد الحديث من القرآن قوله تعالى ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم - إلى أن قال - أحب إليكم من الله ورسوله ) ثم هدد على ذلك وتوعد بقوله : ( فتربصوا ) .
( فائدة ) :
فيه إشارة إلى التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل , فالأول من الأول والأخير من الثاني . وقال غيره : محبة الله على قسمين فرض وندب , فالفرض المحبة التي تبعث على امتثال أوامره والانتهاء عن معاصيه والرضا بما يقدره , فمن وقع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره في محبة الله حيث قدم هوى نفسه والتقصير تارة يكون مع الاسترسال في المباحات والاستكثار منها , فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء فيقدم على المعصية , أو تستمر الغفلة فيقع . وهذا الثاني يسرع إلى الإقلاع مع الندم . وإلى الثاني يشير حديث " لا يزني الزاني وهو مؤمن " والندب أن يواظب على النوافل ويتجنب الوقوع في الشبهات , والمتصف عموما بذلك نادر . قال : وكذلك محبة الرسول على قسمين كما تقدم , ويزاد أن لا يتلقى شيئا من المأمورات والمنهيات إلا من مشكاته , ولا يسلك إلا طريقته , ويرضى بما شرعه , حتى لا يجد في نفسه حرجا مما قضاه , ويتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار والحلم والتواضع وغيرها , فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان , وتتفاوت مراتب المؤمنين بحسب ذلك . وقال الشيخ محيي الدين : هذا حديث عظيم , أصل من أصول الدين . ومعنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات , وتحمل المشاق في الدين , وإيثار ذلك على أعراض الدنيا , ومحبة العبد لله تحصل بفعل طاعته وترك مخالفته , وكذلك الرسول . وإنما قال " مما سواهما " ولم يقل " ممن " ليعم من يعقل ومن لا يعقل . قال : وفيه دليل على أنه لا بأس بهذه التثنية . وأما قوله للذي خطب فقال : ومن يعصهما " بئس الخطيب أنت " فليس من هذا ; لأن المراد في الخطب الإيضاح , وأما هنا فالمراد الإيجاز في اللفظ ليحفظ , ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قاله في موضع آخر قال " ومن يعصهما فلا يضر إلا نفسه " . واعترض بأن هذا الحديث إنما ورد أيضا في حديث خطبة النكاح , وأجيب بأن المقصود في خطبة النكاح أيضا الإيجاز فلا نقض . وثم أجوبة أخرى , منها : دعوى الترجيح , فيكون حيز المنع أولى لأنه عام . والآخر يحتمل الخصوصية ; ولأنه ناقل والآخر مبني على الأصل ; ولأنه قول والآخر فعل . ورد بأن احتمال التخصيص في القول أيضا حاصل بكل قول ليس فيه صيغة عموم أصلا , ومنها دعوى أنه من الخصائص , فيمتنع من غير النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمتنع منه لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاقه التسوية , بخلافه هو فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك . وإلى هذا مال ابن عبد السلام . ومنها دعوى التفرقة بوجه آخر , وهو أن كلامه صلى الله عليه وسلم هنا جملة واحدة فلا يحسن إقامة الظاهر فيها مقام المضمر , وكلام الذي خطب جملتان لا يكره إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر . وتعقب هذا بأنه لا يلزم من كونه لا يكره إقامة الظاهر فيهما مقام المضمر أن يكره إقامة المضمر فيها مقام الظاهر , فما وجه الرد على الخطيب مع أنه هو صلى الله عليه وسلم جمع كما تقدم ؟ ويجاب بأن قصة الخطيب - كما قلنا - ليس فيها صيغة عموم , بل هي واقعة عين , فيحتمل أن يكون في ذلك المجلس من يخشى عليه توهم التسوية كما تقدم . ومن محاسن الأجوبة في الجمع بين حديث الباب وقصة الخطيب أن تثنية الضمير هنا للإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين , لا كل واحدة منهما , فإنها وحدها لاغية إذا لم ترتبط بالأخرى . فمن يدعي حب الله مثلا ولا يحب رسوله لا ينفعه ذلك , ويشير إليه قوله تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) فأوقع متابعته مكتنفة بين قطري محبة العباد ومحبة الله تعالى للعباد . وأما أمر الخطيب بالإفراد فلأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية , إذ العطف في تقدير التكرير , والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم , ويشير إليه قوله تعالى ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) فأعاد " أطيعوا " في الرسول ولم يعده في أولي الأمر لأنهم لا استقلال لهم في الطاعة كاستقلال الرسول . انتهى ملخصا من كلام البيضاوي والطيبي . ومنها أجوبة أخرى فيها تكلم : منها أن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه , ومنها أن له أن يجمع بخلاف غيره .
قوله : ( وأن يحب المرء )
قال يحيى بن معاذ : حقيقة الحب في الله أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء .
قوله : ( وأن يكره أن يعود في الكفر )
زاد أبو نعيم في المستخرج من طريق الحسن بن سفيان عن محمد بن المثنى شيخ المصنف " بعد إذ أنقذه الله منه " , وكذا هو في طريق أخرى للمصنف , والإنقاذ أعم من أن يكون بالعصمة منه ابتداء بأن يولد على الإسلام ويستمر , أو بالإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان كما وقع لكثير من الصحابة , وعلى الأول فيحمل قوله " يعود " على معنى الصيرورة , بخلاف الثاني فإن العودة فيه على ظاهره . فإن قيل : فلم عدى العود بفي ولم يعده بإلى ؟ فالجواب أنه ضمنه معنى الاستقرار , وكأنه قال يستقر فيه . ومثله قوله تعالى ( وما يكون لنا أن نعود فيها ) .
( تنبيه ) :
هذا الإسناد كله بصريون . وأخرجه المصنف بعد ثلاثة أبواب من طريق شعبة عن قتادة عن أنس , واستدل به على فضل من أكره على الكفر فترك البتة إلى أن قتل , وأخرجه من هذا الوجه في الأدب في فضل الحب في الله , ولفظه في هذه الرواية " وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه " وهي أبلغ من لفظ حديث الباب ; لأنه سوى فيه بين الأمرين , وهنا جعل الوقوع في نار الدنيا أولى من الكفر الذي أنقذه الله بالخروج منه في نار الأخرى , وكذا رواه مسلم من هذا الوجه , وصرح النسائي في روايته والإسماعيلي بسماع قتادة له من أنس , والله الموفق . وأخرجه النسائي من طريق طلق بن حبيب عن أنس وزاد في الخصلة الثانية ذكر البغض في الله ولفظه " وأن يحب في الله ويبغض في الله " وقد تقدم للمصنف في ترجمته " والحب في الله والبغض في الله من الإيمان " وكأنه أشار بذلك إلى هذه الرواية . والله أعلم .
باب علامة الإيمان حب الأنصار
فتح الباري بشرح صحيح البخاري